تساؤلات حول أسطرة الواقع في «مياه متصحرة» للعراقي حازم كمال الدين

القدس العربي 31 – يناير – 2016

كيف يمكن للكاتب والأديب أن يرصد الواقع بدون أن يغرق في التسطيح؟ وكيف يمكن للروائي أن يبني عمله الروائي بأدوات جديدة من الأدوات المستعملة والمعهودة؟ وكيف يمكن أن يستفيد من حقائق التاريخ والجغرافيا والفن في بناء رواية بدون أن يتنازل عن قيمتها السردية الأساسية؟ وكيف يمكن أن يؤثر الواقع على الفن، والفن على الواقع؟ أسئلة تفتح أفق التحدي أمام الكاتب، وتضع نفسها أمام القارئ للأعمال الروائية الحديثة التي تملأ المكتبات، فيبحث عمن يستطيع أن يجيب عن تلك التساؤلات لإرضاء ما في نفسه. فإبداع الفنان لا يكون بالإغراق في الخيال والهروب في زوايا قصية عن الواقع المر، بل قد يكون بشكل آخر من خلال إعادة تشكيل هذا الواقع، ولكن بصورة مختلفة توازي قبح الواقع ومرارته، ومحاولة تمرير رؤى في العمق متصلة بالتاريخ ومن ثمة تفتح طريقا إلى المستقبل.


رواية الكاتب المهجري العراقي حازم كمال الدين «مياه متصحرة» المطبوعة في دار فضاءات للنشر، في عمَّان وصلت إلى القائمة الطويلة للبوكر، وهذا الوصول إلى هذه المرتبة المتقدمة في سبيل الوصول إلى القائمة القصيرة ومن ثم السعي إلى جائزة البوكر له ما يسوغه فنيا وموضعيا، وعلى مستويات مختلفة داخل الرواية؛ إذ تمتلك من النضج الفني ما يؤهلها لذلك، فهي تزاوج في بنائها بين الحقيقة والخيال، والواقع والأسطورة، والذاتي والموضوعي، والقديم والجديد، والحاضر والماضي والمستقبل، والأنا والآخر، والقوة والضعف، والحياة والموت، والغموض والوضوح. مزاوجة تنطلق من زوايا مختلفة، وجديدة، لتصل بقارئها إلى اكتشاف الجمال من مضمون ذلك القبح، حيث يستحيل الصراع الطائفي بكل ما ينتجه من تمزق وخراب وألم إلى كتلة روائية أشبه بكون مواز منطلق من هذا الخراب، فيبني الروائي عالمه السردي بشكل أسطوري مشفوعا ببنى الواقع تارة وأدوات الماضي تارة أخرى.


تأخذ الرواية من فضاء العراق مكانا لسير أحداثها، بيد أن القارئ – في قراءته الأولية- لا يدري أي عراق يقرأ، هل هو العراق الحديث الذي يمزقه صراع الطوائف؟ أو العراق الذي أنضجته الحضارات القديمة؟ أو هو العراق الذي تسرب من شقوق الأساطير؟ وهل يقرأ صورة للألم؟ أو يقرأ طريقا لمواجهته؟ وهل هي ملامح سيرة ذاتية اتخذت شكلها الروائي الأسطوري، أو سيرة أسطورة اتخذت شكل الواقع؟ إنها لحظة صادمة للقارئ لكنها صدمة الفن حين لا يعترف بسطحية الواقع فيلجأ إلى تلك الحيل للالتفاف عليه وإعادة تشكيله بطريقته الخاصة.


تسعى هذه القراءة الأولية إلى الخوض في السمة العامة المسيطرة على هذه الرواية، وهي سمة التشكيل الأسطوري، أو ما يمكن أن يظهر للقارئ على شكل تصوير غرائبي وعجائبي ومغرق في الخيال. وفي الوقت نفسه يمكننا وضع الكثير من التساؤلات، وترك الإجابات معلقة، حيث لا يمكن لهذا الحيز الزماني ولا المكاني أن يقدم الإجابات القادرة على الوصول إلى أعماق النص؛ وهو ما يستدعي قراءات أعمق وأوسع، فقد تكون هذه التساؤلات عاملا مساعدا لسبر أغوار الرواية، وكشف أسرارها الفنية والموضوعية. تعتمد الرواية في تقسيمها صورة مغايرة، إذ تنطلق من خلال ما يسميه «النفق الحلزوني»، هذا النفق الذي يتجلى للقارئ وسيلة للانتقال عبر الزمن السردي، وفي الوقت نفسه وسيلة للانتقال عبر فصول الرواية، مانحا القارئ مكانا لاستعراض اللغة الجامعة بين الواقع، والتصوف، والخيال، والشعر. فبين كل فصل وفصل نفق حلزوني. فيصبح هذا النفق الحلزوني مكانا في اللامكان وزمانا في اللازمان، بوصفه مكانا فوق الأمكنة وزمانا فوق الأزمنة. ويشير هذا التقسيم الفني لشكل الرواية إلى البعد الأسطوري الذي لا يجعل الواقع مؤسطرا فحسب، بل يجعل القراءة مؤسطرة كذلك. وهنا ينبغي أن نضع أسئلة لعلنا نعود إليها في قراءة أخرى متصلة بهذا النفق الحلزوني، من قبيل: ما هو النفق، ما هو دوره الفني والمضموني، وما هو دوره على مستوى سطح الرواية وعمقها، وما هي خصائصه، من حيث لغته وما يحملها من أفعال وصفات. وما دوره في ربط أجزاء الرواية، وربط الراوي بالمتلقي؟


يعتمد البناء الفني داخل الرواية على راو يتخذ عدة أشكال مختلفة، فأحيانا يتجلى راويا بصورة ضمير الغائب، وأحيانا يتجلى بصورة ضمير المخاطب، وأحيانا أخرى بصورة المتكلم، ومن ثمة يكون الحكي موزعا، إما عن الماضي أو عن الحاضر أو عن المستقبل، ولكن ما يجمع كل هذا الشتات هو الجمع بين الراوي وبطل الرواية والكاتب معا، حازم كمال الدين، إذ تعمل هذه التسمية على المزيد من التعقيد الجامع بين الخيال والحقيقة، فحازم ليس الكاتب الحقيقي فحسب، بل هو أيضا البطل، وهو مؤلف الفيلم في القصة الداخلية ضمن الرواية، وهو الراوي، بل فوق ذلك هو الذي تفرعت وتناسخت منه بقية الشخصيات. في جمع سحري بين الخاص والعام والحقيقة والخيال. إن الأسطرة هنا تتمثل في إعادة تشكيل البناء الروائي، ومحاولة الإسهام في رصد الواقع عن كثب، لكن مع مراعاة عدم تقديم صورة دقيقة عن ذلك الواقع، إذ تتخذ النظرة الفنية مساحة أكثر شمولية وعمقا؛ لأن الأمر لا يقتصر على موضوع تسجيل شهادة لما يحصل، بقدر ما هو استخلاص رؤية كلية تمثل رؤية الفنان بالدرجة الأولى، وهي جزء من الفضاء الإنساني العام. كما تقدم ـ بصورة أخرى- مدلولات عميقة عن تشظي الذات، التي يتنازعها الواقع الأليم والتاريخ بكل تحولاته، ومن ثمة ضبابية الرؤية تجاه المستقبل.


وتأتي الأسطرة أيضا في رسم الشخصيات على مستوى الوصف، والفعل السردي، وفي مستويات عدة، منها ما هو مرتبط بتسلسل الحدث الروائي الآني في سلوك الشخصية الرئيسة بكل تحولاتها، ومنها ما يعرضه من حكايات مضمنة، لاسيما حكاية الجد الذي اكتسب لقب السفاح، وكيف جاء هذا اللقب، ومنها حكايته حين قتل الثور المجنح، في ربط مباشر بين الحاضر المؤلم الذي يتمثل في حالة الاستلاب، والماضي المستمد قوته من حضارته العريقة وأساطيره الغزيرة. ونجد في أكثر من موضع المزج بين أسطورة جلجامش والنص، ليس فقط من خلال النص المباشر، بل باتخاذ الكثير من مضامين تلك الملحمة وإسقاطها على الأحداث وعلى الشخصيات السردية، بما يكسبها البعد الأسطوري والواقعي في آن.


ومثلما تشكل الأسطرة جزءا من لعبة النص، نرى كذلك الترميز، حيث تشتغل الكثير من الرموز التي يمكن أن يتم تحميلها دلالات مختلفة، فحين يكون الواقع بهذه الدرجة من السوء، يسعى إلى تكثيف هذا الكم الكبير من الهباء وجعله في رموز مكثفة في مسعى لفضح الواقع والسخرية منه، مثلما تؤدي المرأة العقرب ذلك الرمز الذي يعمل على غسل أدمغة البشر وجعلهم عبارة عن حصان طروادة، أو جعله إنسانا مجوف الجسد تملؤه العفاريت، فيكون جاهزا للقتل في أي لحظة. ويمكن وضع تساؤلات هنا عن دور هذه الرموز وكيفية اشتغالها سرديا، سواء أكانت رموزا بسيطة أم مركبة، حيث يمكن رصد بعضها من مثل: العنكبوت، أو الطنطل، قواويد الغجر، جحوش الأكراد… إلخ.


وفي إطار أسطرة الرواية استعان الكاتب بعدد من النصوص القديمة، وما يثير الدهشة تلك القدرة على امتصاصها من مشاربها المختلفة، قرآنا، أحاديث، نصوصا تاريخية مختلفة، نصوصا أسطورية، أحاديث وتصريحات صحافية، أشعارا ومأثورات صوفية، وبمستويات قد تكون ظاهرة وقد تكون على شكل تهويمات مبطنة. وفي تجانس يصعب معه الفصل بين المادة الروائية وتلك المصادر التي وظفها. فمنها ما كان محاكاة للنص الأسطوري وإعادة رسمه بأدوات الحاضر، ومنها ما كان تجسيدا له، ومنها مناقشة للنص وحوار معه.


وفي الأخير يمكن الإشارة إلى الأسطرة في تشكيل المكان الروائي، حيث يتم الجمع المتناقض بين الغريب البالغ في غرابته والواقعي المغرق في واقعيته، ويظهر التشكيل الأسطوري والخرافي واللامعقول بالتجاور مع الرسوم والخرائط التوضيحية للعراق وبغداد. فتأتي تلك الصور والخرائط والرسوم بوصفها عناصر مبالغة في واقعيتها، فحين ينساب القارئ في الخيال ينصدم بمرارة الواقع، وحين يصدمه الواقع يذكره الخيال. وتتغلغل الأسطرة في عمق الأماكن التي مرت عليها الأحداث من القلعة إلى البساتين إلى حدائق بابل، حتى المقهى الكائن في الآخرة. ومع تلك الأسطرة إلا أنه لا يمكن أبدا أن تشك أنه الواقع. وهكذا نكون أمام عمل فني لا يتنكر لواقعه ولا يسطحه، ولكنه يحاول أن يحاكي جنونه بجنون مماثل؛ فتأتي هذه الرواية المجنونة في أسطوريتها على قدر ذاك الواقع المجنون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *