أسئلة الطرقات المتعبة

سألني مرة صديقي لماذا تحب الوحدة؟

قلت له لأني لا أحب الانفصال…

 ضحك مؤكدا مرة أخرى:

 أعني الوحدة.. الوحدة.. أن تبقى وحيدا ولاتحب اللقاءات الاجتماعية بكثرة.

ضحكتُ ، وقلت:

من قال لك يا صديقي إني أحب الوحدة؟ وأنا أعشق اللقاءات!

 ربما لي فلسفتي الخاصة لمفهوم الشخصية الاجتماعية، حيث أزور كل يوم تقريبا مدينة وألتقي أناسا جدد وأتعرف على حضارات مختلفة.

صحيح أن هذا يتم من خلال الإنترنت هذا المكان السحري الذي ينقلني في لحظات إلى المكان الذي أريد، ولكن نفسيا لايختلف الأمر لدي كثيرا بين أن يكون هذا السفر افتراضيا أو أن يكون في الحقيقة.

بل ربما أن السفر الحقيقي والالتقاء بالناس على الواقع يضيف إلى التجربة أمورا أخرى تؤثر سلبا على طبيعة تفاعلنا مع ماحولنا، ومن ثم يحمل مسؤولية هذه المشاعر السلبية على علاقاتنا الاجتماعية.

الأمر ليس كذلك افتراضيا حيث يمكنني أن أرمم الزوايا الغامضة بشيء من الحلم والخيال المتصالح معي دائما.

سألني صديقي مرة أخرى: هل ستحتفل برأس السنة؟

 قلت له: أحب أن أحتفل بمؤخرة السنة البائسة هذه أولا!

ضحك فأردفت له قائلا: أعرف أنك وإن كنت تحب أن تحتفل معي فإنك تفضل أن تحتفل بالرؤوس غالبا.

ثم أضفت: سأكتب هذا في بوست على الفيس بوك وأشير إليك.

فقال بنبرة أشبه بالتهديد: إياك سأحظرك بشكل نهائي.

 حينها وقعت في حيرة بين أن أحتفظ بصديقي يحتفل برأس السنة أو أن أحتفل بمؤخرة السنة المودعة بلا أصدقاء!

بعد شهر من آخر رسالة أرسلتها إلى صديقي على الواتس أب وفتحها ولم يرد عليها

كتب لي: “العفو منك فتحت رسالتك ونسيت أن أرد عليك”.

قلت له: لا مشكلة يا صديقي البعيد عن الواتس بعيد عن القلب!

قال أنت في القلب ولكن للواتس أب قلوب كثيرة.

قلت له ليس للواتس أب قلب أصلا، ولكنه يملك عقلا ذكيا قد يعلم مافي قلبك ومافي قلوب أصدقاءك، ولكن مع ذلك لم تعلم لا أنت ولا هو إني كنت منتظرا ردك من ذلك الوقت.

قال لا مشكلة هل نستطيع أن نتقابل غدا؟

قلت له للأسف ياصديقي لقد سافرت بعد يومين منذ بعثت إليك الرسالة.

لم يكن صديقي خائنا لمفاهيم الصداقة ولكنه لايدرك أن لهذه العلاقات الإنسانية مسؤوليات أخلاقية أو ربما مسؤوليات أخرى أعمق من المفاهيم الأخلاقية ذاتها، ذلك أن كسر هذه المبادئ أو المنطلقات يترتيب عليه أخطاء فادحة، ولكنها مع الأسف غير مشهودة، وغير قابلة للقياس أو الترجمة، ومن ثم فمن الصعوبة بمكان تحويلها إلى بيانات قابلة للتحقق والتعامل معها بوصفها قواعد يمكن محاكمة مخالفيها بمستوى القاعد القانونية وحتى الأخلاقية.

سألني صديقي بعد أن تذكر أني ذكرت كلمة السفر، وكيف سافرت في هذه السنة المقفرة من الرحلات؟

قلت: له تمكنت من مراوغة الحظر -أعني حظر السفر- ولكني لم أستطع أن أتحرر من حصار خانق يبني سجونا متفرقة في جمجمتي.

أحاول أن أتفاوض بشكل غير مباشر مع الأحلام كي تعطيني مهلة محددة، أنهي بها هذه المشاوير التي تبدو لانهائية، ولكني أفشل، ربما أن هذا الفشل يتبادر إلى حياتي ويكرر هذه المبادرات كلما حاولت أن أتحرر منه.

صديقي… إني أعيش حصارات بعضها فوق بعض، وبعضها داخل بعض أيضا.

حصار اللغة

حصار الجنسية

حصار الهوية

حصار المطر

حصار الغبار

حصار الأكسجين الملوث بالهموم

حصار المشاهد المكتسية بالجوع

حصار الهروب

حصار اللغة الجارحة

حصار الشطآن المؤثثة بالجثث

حصار الأخبار المفخخة بترامب

حصار الأمواج الحبلى بالمهجرين

حصار الشمال المتجمد والجنوب المنصهر

حصار الاتجاهات التي فقدت أماكنها فأرشدتني إلى الضلال.

أسألني مرة وعني أجيب

                         وأمضي إلى وجه ظلي

                                           وحينا أراني ولا أستجيب

وهذا الطريق؟ 

 حزين.

حزين؟

نعم حزين

وكيف عرفت؟

أعرف لغة الطرقات…

                            همسها، رفضها، ضوءها، فرحها، رغبتها بانتهاك القوانين

طريق بلا انتهاء …. طريق حزين

طريق يؤدي إلى خيبة الأصدقاء … طريق حزين

طريق يكرر لي نفسه … طريق حزين

إنه الحزن إذا

الطريق الوحيد الذي يقبل القسمة على الجميع

وبالتالي

فهو اللغة المشتركة لكل شيء حي

وكل شيء ميت أيضا

فالموتى طريقهم بلانهاية

                                               تموت الطريق ويحيى الوطن    وأمضــي أفتش عني إذا

                                              أعيد اختلاق الأمانــــــي فلا      زمانا خلقت ولا لي وطن

ليش وين راح الوطن؟

مات في حادث مروري مروع!

ياساتر..

ايش حصل؟

كان الوطن مريضا، وفجأة اختلف أولاده على أمواله القليلة قبل وفاته

يعني باختصار أارادوا أن يتقاسموا تركته قل وفاته

فقرر أن يسافر من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين

هربا من هذه الفتنة

“يعني يلحق أخواته اللي سافروا قبله”

كان الطريق صعبا ومشكال وحفر وحوادث

وبعد إحدى عشر سنة من السفر

تعرض لحادث

طيب وايش مصير أولاده؟

مازالوا يتقاتلون حتى اللحظة.

على أموال المرحوم؟

عل كل شيء

لذلك أتشاءم من الطرقات

لولا الطريق لما كان هناك حوادث

أخاف الطريق كما أخاف الانتظار

ولكني أحيانا أحب الانتظار، ومن ثم علي أن أحب الطريق

في الحقيقة لم أحدد مصيري بعد

هل أهجو الطريق أم أمدحه

الطريق من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين أفقدني الوطن

ولكني اكتسبت هذه المعرفة به وعنه

                                       قف باكيا واسترجع الأزماتِ   واستنهض العبرات والعثراتِ

                                       ولعل في حرفٍ يكون قيامنا    ويعود لـــي وطن من الكلماتِ

ربما هذه هي الطريق الوحيدة

نخلق بلادا من حنين الخريف ومن ملامحنا المتعبة

سأفعل ياصديقي … سأفعل

سأفعل وإن لم أستطع

سأشتري لي لغة جديدة قادرة على اختلاق وطن جديد من العدم.

مالمو 10/1/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *