فوضى التجانس، أم تنظيم الاختلاف؟

يبدو التجانس والاختلاف قضية مركزية في العالم اليوم، إذ تنطلق من تحت هذه القضية المركزية العديد من القضايا الأخرى المرتبطة بها. فالتجانس هو تماثل العناصر وتشابهها بحيث يكون المجموع عبارة عن تكرار تلك العناصر بصورة متناسخة، في حين يمثل الاختلاف النقيض من فكرة التجانس، أي أن يكون المجموع عبارة عن خليط من أشكال مختلفة وعلى مستويات عدة. ويركز المقال هنا عن التجانس والاختلاف في المجتمع. منطلقا من سؤال مركزي مفاده أيهما الأفضل للمجتمعات، التجانس أم الاختلاف؟ ويمكن وضع السؤال بصورة أخرى، ما هو سر قوة المجتمعات وتماسكها، هل هو تجانسها، أم اختلافها؟

المراجع للتاريخ أو حتى المتأمل في الواقع يجد أن الغريزة تسعى إلى البحث عن التجانس، وتبدو هذه الغريزة أقرب إلى الحيوانية منها إلى الفكر المستنير، إنها بالفعل رغبة الحيوان إلى البحث عن شبيهه والابتعاد قدر الإمكان عن الأغراب، بحيث تكون كل فرقة أو جماعة من الناس مشكلة لها حدودا ومساحات عيش خاصة لا تقبل أن يقترب منها غيرها. ويمكن مراجعة سير الصراع على مر التاريخ فقد قام تحت وطأة هذه الرغبة المتمثلة في إزاحة المختلف معه سواء كان مختلفا في الجنس أو العرق أو اللون أو المعتقد، أو حتى في الرأي، أو مكان الميلاد. ولكن السؤال الماثل هنا هو: هل الأصل هو الاختلاف أم التجانس؟ يمكن باختصار الإجابة عن هذا السؤال بالقول إن التجانس أصل في الحيوان، في حين أن الاختلاف هو الأصل في العقل البشري، فالجزء الحيواني من الإنسان يسعى إلى التجانس، والجزء المتعلق بالعقل والتفكير يرى أن الاختلاف هو الأصل؛ لذلك لا يمكن بحال أن تجد أي فكر أو فلسفة أو تشريع ديني أو رؤية سياسية، إلا وتقدم فكرة الاختلاف بما يعني أن الاستسلام لمفهوم البحث عن التجانس هو استسلام العقل للغريزة الحيوانية.

ببساطة يمكن القول إن التجانس وظيفة يمكن أن يتغير التوصيف ليتم القيام بها تحت أي مسمى، فالمجتمعات التي تسعى لنقائها من المختلف معه بصورة كبيرة سيجد نفسه بعد هذه العملية مضطرا للبحث عن اختلافات داخله؛ وهو ما يهدد وظيفة التجانس ذاتها فتنشأ رغبة داخلية في إجراء مسح داخلي لتجانس جديد. على سبيل المثال لو أن هناك مجتمعا يسعى لتجانسه عرقيا وحقق هذا النجاح، وأصبح المجتمع كله من عرق واحد، هل سيبقى الأمر عند هذا الحد، أم أنه سينفتح على البحث عن نقاء جديد؟ إذ سيجد المجتمع نفسه متشكلا باختلافات أخرى دينية مثلا، فسيسعى مرة أخرى لتشكيل مجتمع متجانس دينيا، ويحمل دينا واحدا وعقيدة واحدة، ثم إن حقق ذلك سيجد نفسه أمام اختلاف طائفي، وهكذا تستمر سلسلة الاختلافات داخل المجتمع. بما يعني أن انفتاح سيرة البحث عن التجانس لن تقف عند حد إذ تستمر شهية هذه الوظيفة إلى ما لانهاية.

كثير من الحضارات والأمم توسعت على أساس فكرة التعالي النوعي أو الجنسي أو العقائدي، لكنها سرعان ما انحسرت وخفتت واندثرت؛ ذلك أنها تفتقر للأصل الإنساني الذي ينبغي لها أن تتوسع على أساسه. ويمكننا أن نتساءل: أيهما سيطر على العالم، اليابان المتعالي بعرقه وبجنسه، أم اليابان القوي باعترافه بالاختلاف والتعدد؟ وأيهما ساد العالم ألمانيا المتعالية بفكرة النقاء العرقي والجنس الآري، أم ألمانيا الديمقراطية القائمة على قواعد التعدد والاختلاف؟ الحضارة الإسلامية نفسها كانت تتسع حين تستسلم لفكرة الاختلاف والتعدد والتنوع والاعتراف بالآخر وتنحسر وتتفتت وتتشرذم حين تبدأ بتطبيق مبدأ التجانس.

تتعالى الأصوات في المجتمعات العربية منادية بإلغاء الأحزاب، بوصفها أساس الخراب ومبدأ لحدوث الشقاق داخل المجتمعات، ولا ندري هنا هل المشكلة في الأحزاب بوصفها تجسيدا للاختلافات داخل المجتمع أم المشكلة في الأداء السيئ  لتلك الأحزاب؟ إن هذه الأصوات تبدو منساقة وراء فكرة التجانس التي ترى أن المجتمعات واحدة وأن هذه الأحزاب هي السبب في نشوء الاختلافات متناسية أن الاختلافات جزء من تكوين البشر الكائن المفكر الذي تتعدد توجهاته الفكرية والعقائدية وتختلف في الفكر والذوق والدين واللون والرغبات والأمزجة، ومن ثم فإن الأحزاب يفترض بها أن تكون تجسيدا منظما لهذه الاختلافات، وإنكارها يعني إنكار الطبيعة البشرية والاستسلام لتلك النزعة الحيوانية. وهنا نكون سائرين تحت نزعة استبداد جماعة واحدة ترغب في فرض رؤيتها الوحيدة على المجتمع في كل شيء تماما كما يفعل الذكر المسيطر على مجموعة من القطيع.

هل الأداء السيء للأحزاب والمنظمات والجماعات السياسية مبرر للمطالبة بإلغائها؟ لا يمكن القبول بذلك، فمن يقول إن المجتمع واحد وغير مختلف وأن الأحزاب هي السبب، هو كالأخ الأكبر في بعض الأسر الذي يسعى إلى السيطرة على كل شيء وترك العائلة بدون أي شيء تحت دعوى أن نحن شيء واحد،، دون أن يعطي كل ذي حق حقه وفق نظام عادل ومعلوم. ومن ثم فالحل هو العمل على إصلاح تلك الأحزاب ومراقبة عملها بمراعاة  قواعد ثابتة، وبتعبير آخر، الحل هو في العمل على تنظيم الاختلاف وتنظيم تلك الأحزاب لتؤدي أهدافها وتحقق رؤيتها كما ينبغي لا أن تكون مجرد واجهات للسيطرة والارتزاق والفساد والمساعدة على الاستبداد.

إن التجانس مفتاح مباشر للفوضى، ومدخل للغرق فيها ولو بعد حين، فلم يقدم التجانس عبر التاريخ أي نموذج يمكن أن يكون علامة تستحق الاقتداء ، والحل الحقيقي هو الاعتراف بالتعدد والاختلاف والعمل على تنظيمه ليتوافق مع الأسس الإنسانية والعقل البشري المرتبط بالعلم والحضارة والتقدم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *