تسعى بعض المجتمعات إلى حماية ذاتها عبر رفض المختلف بوصفه خطرا يجعل النسيج يتداعى لينتهي بالمجتمع إلى التفكك، وتسعى مجتمعات أخرى إلى جعل هذا الاختلاف أساسا لتماسكها الداخلي عبر تنظيمه، فيمنع حالة الصراع السلبي، ويجعل المجتمع أكثر مناعة ضد التدخلات التي تؤثر على بنيته الداخلية. ولكن حين ننظر في مجتمعاتنا العربية نجد أن هناك فوبيا من هذا الاختلاف سواء كان دينيا أو عرقيا أو طبقيا أو فكريا أو فلسفيا أو فنيا أو معرفيا، … إلخ. والسؤال الذي ينبغي أن يوضع هنا هو: من المسؤول عن صناعة هذه الفوبيا؟ هل هو المجتمع ذاته؟ أم أن هناك عناصر فاعلة تتحكم به وتسعى إلى رفض هذا الاختلاف كونه يهدد مصالح تلك العناصر ويشكل خطرا على مجالها الحيوي داخل المجتمع، سواء جاء هذا الاختلاف على شكل أفكار أو على شكل تجل مادي آخر؟
إن فاحص الذاكرة الشعبية سيجد الكثير من الأمثال والعبارات التي تم التواطؤ عليها بوصفها شيئا من الحكمة، يقول أحد الأمثال: “مع أخوتك مخطئ ولا وحدك مصيب”. وهو تقريبا امتداد لبيت الشاعر الجاهلي دريد بن الصمة:
وما أنا إلا من غزية إن غوت … غويت وإن ترشدغزية أرشدُ
فمطلق المثل ومعه دريد ابن الصمه بوصفهما نموذجين للمجتمع يقدسان الفعل الجماعي والالتزام به سواء كان هذا الفعل سلبيا أو إيجابيا، وهو ما يعني قتل روح التميز أو التفكير الانفرادي الإبداعي الذي يخرج عم المألوف الاجتماعي، وجعل الفعل الجماعي هو الأساس والذي قد تسيره أهداف جزئية توظف لصالح أفراد بعينهم داخل هذا المجتمع، ولا يحق للفرد المختلف أو مجموعة جزئية مختلفة أن تتخذ موقفا بناء على هذا النسق الذي يرفض فكرة الخروج عن الإرادة الجماعية. والأمر هنا يجر إلى موضوع الديمقراطية وأن الرأي يكون للأغلبية، بيد أن هذا الموضوع لا ينطبق على فكرة إلغاء الرأي الآخر وجعله في حكم المنعدم، فترجيح فعل الغلبة يأتي من وجود المغلوب، أي بمعنى أن سيادة الأغلب جاء من وجود المغلوب في الأصل. وسياسة إلغاء المختلف وتجريمه تنشئ بؤر تسلط داخلية تستغلها المراكز النافذة لتمرر إرادتها تحت لافتة حماية المجتمع، تماما كما يدعي بعض رجال الدين حمايته بواسطة الموت والتفجير.
إن خطورة هذا الأمر تصل إلى أن البعض يربون أولادهم على سياسة اتباع المجموع ورفض مخالفته وقياس صحة السلوك أو الفكرة أو الفعل بناء على تصرف المجتمع، تقول عبارة أخرى: “الموت مع الجماعة رحمة”، فمن يقف عندها سيجد كمية الخطورة فيها، فالفرد عليه أن يوقف إرادته وتفكيره وقناعاته؛ كي يضعها جميعا في يد المجتمع فهو الذي يفكر عنه ويتخذ القرار المناسب. إنها نسقية تصادر قدرة الفرد على الفعل بعيدا عن رأي الجماعة، كما تعوده على الاتباع وإلغاء التفكير والتحليل والنقد، وهذا كله يؤدي إلى إنشاء مجتمع منزوع القدرة على الفعل ويجعله ينظر إلى بعضه باتجاه الفعل الجماعي وهو لا يعلم في الحقيقة من هو الذي يسير المجتمع، فيكون سلوكه ليس السلوك الجماعي بقدر ماهو سلوك تصنعه أطراف صغرى استطاعت أن ترسم خطوط الفعل الجماعي وتجيره لصالحها بناء على هذا التفويض النسقي الثابت.
من جهة أخرى نجد أن هناك حالات لا تجد نفسها إلا خارج سياق الجماعة، فترفض أي شكل من أشكال الاجتماع لتغرد خارج السياق لأهداف معينة وأحيانا فقط من أجل الاختلاف. وهنا يمكن القول إن التفكير النقدي الفردي لا يعني الخروج عن الجماعة، فالجماعة في الأساس تتكون من هؤلاء الأفراد، ومصادرة رأي الفرد سيؤدي في الأخير إلى مصادرة رأي المجتمع. وفي الوقت نفسه، ينبغي على الفرد أن يحترم رأي الأغلبية لكن دون أن يتنازل عن حقه في الاختلاف.