تنشأ الازدواجية الثقافية من خلال وجود ثقافتين مختلفتين تعيشان داخل مجتمع واحد، ويكون اختلافهما قائم على الأساس اللغوي أو الديني أو الامتداد العرقي. وقد عرفت الكثير من المجتمعات الحديثة بأنها تمتلك ازدواجا ثقافيا، ولكنها استطاعت تجاوز هذا الازدواج بل وتوجيهه وجهة إيجابية تسعى إلى صنع تكامل داخل المجتمع من خلال دمج هاتين الثقافتين على أسس صحيحة تضع الاعتبار الأول لخدمة المجتمع التي تعيش فيه بصورة عامة، قبل خدمة الثقافة أو المحيط الصغير الذي تمثله، كما هو الأمر على سيبل المثال في كندا التي تعيش ازدواجية ثقافية بين المتحدثين بالإنجليزية والفرنسية أو في بلجيكا التي يتحدث أهلها الفرنسية والهولندية. كما أن المثال الأجدر بالطرح هنا هو تجاوز المخاطر الذي كانت تمثله الازدواجية الثقافية المتصارعة في جنوب أفريقيا، لتصل إلى فكرة التكامل بين ثقافتين مختلفتين داخل المجتمع على أسس الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان.
لكن ما هو خطير الآن في مجتمعاتنا العربية أنها تعيش ازدواجية ثقافية غير مرئية، وهي ازدواجية ثقافية متصارعة على نحو ما داخل المجتمع ذاته. فالمجتمع العربي –وعلى الرغم من تفاوت في النسب من بلد إلى آخر- يعيش حالة من التأخر في الجانب المعرفي والفكري والثقافي والعلمي والتقني، يجعله في الأساس مقيما في مرحلة تاريخية تفصله عن العالم الحديث مئات السنوات، بما يجعله يجتر ما ينتجه العالم المتقدم بوصفه هنا مستهلكا أو تابعا لا أكثر. وهنا تكون هذه الثقافة التي هي ثقافة تنتمي إلى الماضي أكثر من كونها تنتمي إلى الحاضر وقيمه وأدواته وكل معطياته. فهي ثقافة تعيش في الماضي وتستحضر صراعاته على الجانب الديني والسياسي وينعكس كل ذلك على المستوى الاقتصادي وعلى المستوى المعرفي. وفي الوقت نفسه تتشكل ثقافة حديثة ناتجة عن قيم العولمة التي دخلت إلى كل مكان في هذا العالم؛ بفعل التقنية الرقمية التي أظهرت ثقافة عالمية، بمعطياتها المتمثلة في ثورة المعلومات والمعارف الحديثة وسهولة الوصول إلى ما يحتاجه الإنسان، وكذلك القدرة على التعبير وصنع الأحداث ونقل المعلومات لكل إنسان تقريبا. ومع هذا الانفتاح الإلزامي الذي وجد المجتمع نفسه فيه فقد تسربت إليه القيم الجديدة التي تأتي من مختلف الثقافات والخلفيات عبر العالم. وهكذا تنشأ لدينا ثقافتان، ثقافة المجتمع الذي ما يزال يعيش بفارق سنوات عن العالم الحديث، وثقافة جديدة وافدة وغير منضبطة في الغالب، فهي لا تمثل المجتمع الحديث وثورته العلمية لكنها أيضا قدمت بأدوات حديثة تجعل الفرد هو من يشكل ثقافته الخاصة والتي قد يتمرد فيها على ثقافة المجتمع ويعمق من شرخ الصراع بين الثقافتين.
لا يمكن الجزم أن هذا الازدواج محصور بالمجتمع العربي فحسب فربما أغلب المجتمعات لا سيما تلك التي تتشكل من ثقافة واحدة بلغاتها وخلفياتها الدينية والعرقية، قد انصدمت بهذا التداخل بين ثقافة ظلت محافظة على نفسها وتحمي ذاتها من الثقافات الوافدة ومن تأثيراتها، وثقافة لا يبدو لها شكل معين بقدر ما هي تمتلك الأدوات اللازمة التي تجعل الفرد يتمرد على الثقافة الجمعية ويعزز قيم الفردية. بيد أن المشكلة هنا أن المجتمع العربي قد ظل في حالة المتفرج فقط بل ومازال يعيش حالة الصدمة ويقوم بدور المستهلك فقط، دون أن يعمل على استيعاب المشكلة من ثم دراستها، ووضع الحلول اللازمة التي تمكنه من المواءمة بين قيم الثقافة داخل المجتمع، والأدوات الحديثة التي جاءت بها هذه الثقافة الوافدة قسرا. في حين أن أغلب المجتمعات الأخرى قد استوعبت هذه المشكلة وكيفت نفسها على التعامل مع هذه الثقافة الجديدة، لتخرج منها بسلام دون حدوث أية تشوهات في جسد المجتمع وثقافته الأصلية.
يبدو من خلال المتابعة أن المجتمع العربي في كل مؤسساته الرسمية وحتى داخل الأسر يمارس بشكل جمعي الثقافة التقليدية التي تجره إلى الماضي وما يبتعها أيضا على مستوى التربية والتعليم والتثقيف، في حين أنه على المستوى الفردي يعيش ثقافة العالم الحديث الذي يربطه بالواقع، دون أن ينتبه أحد لهذا الازدواج الخطير الذي قد ينشئ جيلا جديدا مشتتا بين ثقافتين، ثقافة مجتمع يعيش في الماضي على المستوى الجمعي وثقافة فردية تعايش الحاضر بقيمه الحديثة دون أن يكون هناك أي تنظيم علمي وثقافي وفكري يعطي الفرد الوسائل اللازمة لتجاوز الجوانب السلبية لهذه الثقافة المفتوحة.
إن من أهم مظاهر هذه الازدواجية الثقافية في المجتمع هو أن المؤسسات الثقافية والدينية والتعليمية، مازالت تستعمل الأدوات التلقيدية في التعامل مع الواقع، فلغة الخطاب الثقافي والديني والتعليمي مازالت مبنية في الأساس على الثقافة التقليدية. على سبيل المثال نجد أنَّ المناهج التعليمية من حيث مضمونها لا تنتمي إلى هذه الحقبة وكأنما تلك المناهج تتعامل مع أجيال القرن الماضي، وهنا ينشأ الشرخ بين ما يتعلمه الفرد وما يتعامل معه على أرض الواقع، فعلى الرغم من أنَّ الواقع يزدحم بالعلوم والمعارف وثورة المعلومات، فإنَّ تلك المناهج مازالت تتعامل -في الغالب- مع حقائق قد تبدلت وتغيرت كثيرا، ومن جهة أخرى فإن تلك المناهج ذاتها من حيث بنيتها وطرائقها مازالت تتعامل مع نظريات قديمة، كما أنه من الصعب جدا تطبيقها على جيل يمتلك في واقعه ما يتجاوزها بمراحل بما وضعته التكنولوجيا الحديثة من أدوات جديدة بين يديه. أما الخطاب الديني فهو الآخر بغض النظر عما يعتريه حاليا من ردة باتجاه الماضي السحيق فإنه حتى المعتدل منه لم يستطع أن يجاري الحاضر ويتعامل معه في سبيل تهذيب الكثير من الأخطاء الناتجة عن هذه الثقافة الحديثة الوافدة بقوة التكنولوجيا. وفي الخطاب الثقافي لم نجد حتى اللحظة مشاريعا حقيقية ترتكز على قيم الثقافة الحديثة بما تملكه من أدوات معرفية وتقنية تساعد على تطوير الخطاب الثقافي واستغلال ما تمكننا به من أدوات للوصل إلى جمهور أوسع. إن اتساع الهوة هنا بين الثقافتين قد عمل على تجريف الثقافة التقليدية وتراجع مستوى الثقافة في مستواها التقليدي حتى دون إيجاد البديل الملائم، فلم يعد هناك مسرحا فاعلا ولا سينما ولا مجلات ولا فعاليات. ذلك أن الثقافة الحديثة أوالحياة المعاصر تحتاج إلى تجديد في الوسائل الثقافية وفي مضمونها أيضا.
وعلى سبيل المثال أيضا من نتائج ذلك التعامل السلبي مع التكنولوجيا الحديثة ولا سيما مع وسائل التواصل الاجتماعي التي أظهرت بقوة هذا الازدواج الثقافي بين ثقافة جمعية تنتمي إلى الحاضر وثقافة حديثة متأثرة بالقيم الوافدة، دون وجود أية مواءمة من بين الثقافتين لتشكيل ثقافة مجتمع مرتبط بقيم ثقافته الأصيلة وبواقعه دون وجود أي صدام أو تعارض. هناك الكثير من النماذج السلبية التي تبدو فردية بيد أنها تشكل ظواهر عامة تستحق الوقوف والدراسة من تلك المؤسسات المعنية ومحاولة خلق حالة من التشذيب للقيم الفردية الحديثة وجعلها جزءا من ثقافة المجتمع العامة، من ذلك على سبيل المثال التعامل بلا مبالاة مع صور الموتى أو القتلى أو المشوهين أو المشاهد المؤذية للناس وصغار السن دون خوف من تأثيرها السلبي على نفسياتهم. إن هذا الأمر في حد ذاته يتناقض مع قيم المجتمع التقليدي الذي يحترم الموتى كما يحترم الأحياء، فكيف تتجرأ هذه الثقافة الفردية على اقتحام هذه المحرمات التي كان يرسمها المجتمع، وهي في الوقت ذاته تتناقض أيضا مع أخلاقيات التعامل الحديث الذي يرى في هذه التصرفات تعديا على الآخرين دون أذن منهم، إن هذا الأمر في المجتعات الأخرى موجود ولكن ليس بالمستوى الذي في مجتمعاتنا لأن مؤسساتنا الرسمية والأسرية هنا غير قادرة على التعامل مع هذه الأخطاء الناتجة عن هذه الازدواجية.
الأمر الآخر والأخطر هو مسألة تربية الأولاد بالطريقة التقليدية، قديما كان يمكن التحكم بالأولاد عبر معرفة أين يذهبون ومن يصادقون وكيف يقضون حياتهم مما يساعدنا على ضبط سلوكهم وتهذيب نفسياتهم والمساعدة في بنائها البناء الصحيح بعيدا عن المؤثرات السلبية، بيد أنه في العصر الحديث لم يعد بالإمكان استعمال الوسائل التقليدية في المنع والتحكم والمصادرة خاصة مع قدرة العالم على الوصول إلى يد الطفل عبر التكنولوجيا الحديثة؛ مما يجعلنا نبحث عن وسائل حديثة في التعامل مع الطفل والبحث عن وسائل تربية حديثة تلائم هذه الثقافة الجديدة، وهذا الأمر مسؤولية مؤسسات البحث والجامعات، ومراكز البحث العلمي والتربوي.
نحن نعيش ثقافة حديثة بكل ما فيها من وسائل إيجابية وسلبية، على هذا المجتمع أن يغادر ثقافته التقليدية ويجلعها مجرد خلفية يتعامل على أساسها مع ثقافته الحديثة محاولا بناء ثقافة جديدة لا تلغي الماضي ولا تستسلم للثقافة الحديثة في مستوياتها الفردية، بل صنع ثقافة حديثة هى نتاج بين ثقافة العصر وثقافة الماضي، لتشكيل ثقافة حديثة متوازنة محافظة على جوانبها الإيجابية الأصيلة.