الفكري والشعري في «يوميات الشنفرى في هولندا»

القدس العربي: July 31, 2015

لشنفرى في ذاكرة التاريخ الفكري والإنساني، هو مجموعة من القيم التي رفضت واقعاً فرض نفسه بقوة النفوذ السياسي والاجتماعي، فعبرت عن هذا الرفض بوسائل مختلفة، يميل بعضها إلى الطريقة المادية بالسلوك والفعل المباشر والمتمثل في الصعلكة، التي عمدت إلى السطو على أملاك الأغنياء والإنفاق منها، ومن ثم إعطاء الفقراء.
وطريقة الرفض باللغة، بوساطة الشعر، كما فعل وغيره من الشعراء الصعاليك، بيد أن ما يميزه هو أنه أضاف شيئاً آخر لهاتين الطريقتين، فقد حاول بناء عالم خاص به، ليس من الخيال، وإنما بإضفاء المعاني الإنسانية التي يفتقدها في عالمه الحقيقي على ذلك العالم الجديد المتشكل في القفار، وبسكانه المميزين، سيد عملَّس وأرقط زهلول وعرفاء جيال، وغيرهم.
يأتي الديوان، حاملاً عنوانه الصادم، (من يوميات الشنفرى في Netherlands)، ليضع بداية لشنفرى العصر الحالي، وبإسقاط مباشر على الذات الشاعرة، داخل نصوصه، التي ستحمل مذكراته، والتي بشر بها المقال قبل عام من الآن، وهو شنفرى جديد ومختلف ويحمل زاوية رؤية مختلفة لوضع مختلف، وإن اشترك مع الشنفرى الجاهلي في لحظة الألم الإنسانية العامة.
لقد سيطر الشنفرى على البناء الكلي للديوان، سيطرة في العمق الدلالي للنص، فقد جاءت المقدمة بقلم المبدع ذاته، وكأنما هي مقدمة المبدع ناقداً عن الشنفرى بوصفه كائناً آخر، سيأتي اشتغاله بذاته في النصوص اللاحقة، ثم عندما يتجلى الشنفرى في النصوص لا نجد له نصاً يستحوذ عليه، فلا يوجد عنوان واحد من العناوين الداخلية خاص بالشنفرى، لذلك نجده يكتب بذاته تلك النصوص وحتى وهو يراسل آخرين ومن عصور مختلفة، ثم إنه يبدو أحياناً كاتباً عن ذاته في الطائرة أو في القطار أو في الحافلة:
«أمستردامُ
ضاق الأفق بي
فأتيتُ فرداً
ليس يؤيه زحامُ

فضُمِّيني أمستردامُ
بي بردٌ
وصيفك دفئُهُ
للواجفين سلامُ».

ونجده في لقطات أخرى، واصفا ذاته من زاوية بعيدة وخارجية منفصلة عنه:

«ها أنتَ
وحدَكَ
في طريقٍ،
لستَ تعرفُ منتهاه
والريح تعول
في فيافي الجنة الخضراءِ.

وحدكَ
في الطريقِ
على قطارٍ
لست تعرفُ من خطاه
شيئاً سوى
Zwollo
تُسلمك إلى
Emmen
حيثُ الكامبُ
والغرباءُ مثلُكَ
بانتظَارِ عَدَاَلةِ الغُرباء..».

إذن الشنفرى هنا يبدو أولاً في المقدمة كما يراها المبدع الناقد المفكر، وهو يضع مقدمة لهذه النصوص الجديدة التي توثق يومياته، ليس في الصحراء بل في غابات هولندا وريفها. وفي القسم الآخر يبدو الشنفرى، وهو يروي تفاصيل تلك اليوميات، حيناً، ومخاطباً أقرانه في الهم الإنساني والعربي العام، بدءاً من العصر الجاهلي وانتهاء بالتقاطعات الإنسانية التي تلامس اللحظة الآنية، لحظة الكتابة، بكل ما يعتمل فيها من خصوصية الألم والهم المعاصر لعالم المبدع. لقد امتدت رسائله القصيرة لتتجاوز كل العصور ومن ثم كل الأمكنة فخاطب: طرفة بن العبد، امرأ القيس، وأبا الطيب المتنبي، وتميم بن مقبل، وغويا، وعجوز بيتر بيخسّل، وشمس الدين التبريزي. وهي شخصيات تتعدد بمرجعياتها من التاريخ، إلى الفن، إلى الفلسفة، ولكنها تتقاطع في ما بينها لتشكل في النهاية مجموعة من القيم الإنسانية الغائبة التي تبحث عنها تلك الشخصيات، أو أنها تركت أثراً في تاريخ الإنسانية متعلقاً بجوهرها، منحها نوعاً من الخلود مرتبطاً بها.
كما يجتمع داخل هذا الشنفرى كل المعاني الإنسانية من أزمنة مختلفة، نجد أن الوطن هو الآخر يجتمع داخله بين الهنا والهناك، حتى عندما يغادر الشنفرى وطنه باحثاً عن وطن بديل، فإن هذا الوطن البديل يظل مسكوناً ومؤثثاً بالوطن الذي غادره، وهذ ما هو مسكون في كل تفاصيل المتن، فقد جاء في أول نص:
«أمستردامُ
لي وطنٌ
أضاعتهُ الحماقةُ
في زحامٍ
قاااااحلٍ
وطنٌ
يلوذُ به الحيارى
كان يؤوي
كل من ضاقتْ به الآفاقُ
مثلي،
الآن
أوَّاه ».

فيأتي رد أمستردام في آخر النص:

«أقبلْ…
صدورُ مطيهمْ
أنأى إليكَ… ودربها غربانُ
والكونُ منأى للكريم
فلذ بشمسي
لستُ كالصحراء…
لُذ بي
ما استطعت
كما تشااااااءُ …»

فالوطن الحلم، الوطن بمنظوره الرومانسي الجميل، كان في عالم الذات في الماضي، ولكنه الآن أصبح في مستقبله، مع الوطن البديل الذي يبحث عنه، وهو أيضاً في قمة انبهاره بهذا الوطن الذي ليس كالصحراء، في اللحظة نفسها، يظل مسكوناً بالوطن الذاكرة، الموسيقى، والفن، والرقص الشعبي:
(زربدة، هبيش، عدة)
أو «قمير ساهر في (خلف) ترقصه أغان لا تنام».
إن هجرة الشنفرى، هذه الهجرة المزدوجة، تمثل رحلة بين عالمين وبين زمنين، وبين حالتين مختلفتين تماماً، ومنها تتم إعادة اكتشاف الأشياء، وإعادة تقييم المفاهيم، حيث يكون للوطن مفهوم مختلف عن الانتماء، ويكون مجموعة من القيم التي يحملها معه، وحتى الغربة تغادر مفهومها البسيط المتمثل في ابتعاد الذات عن المكان الذي عاشه وتربى فيه:
«ها أنت،
تنأى، ثم تنأى، ثم تنأى،
في الأمان وفي الجمااال
وترى خلال الجنتين
صوراً مشاهدَ
من هنااااااك
حيث الحماقةُ
تضرب الأطناب في كل اتجاه
حيث البلاد
يقامرون بها على كل رصيف
حيث الخراب،
حيث السراب،
حيث الدماااااااء….
حيث اغترابك
ها هناااااااااااااااااك».
فالوطن إذا هو هذا الحلم الذي أصبح حقيقة هنا، مجموعة من الأمان والجمال، وهجرة الجنتين من المفهوم التاريخي إلى الواقع الذي يحيطه من كل اتجاهاته، ثم تتداعى له من بعيد كل مقومات الاغتراب، القادمة من الوطن، وهكذا أصبحت الغربة بالمعنى المباشر للاغتراب هي الوطن، وأضحى الوطن بالمعنى السطحي هو الغربة بمفهومها العميق.
إن الوطن ونقيضه الغربة ليست تلك المفاهيم السطحية، بل هي منظومة من القيم العميقة التي يعيد النص بسطها من خلال اللغة البسيطة أيضاً، فالوطن هو هنا الأمان والجمال ويختصره في الجنتين، أما الغربة فهي الخراب والسراب والمقامرة بالوطن والدماء، ولو كان ذلك هو المكان الذي عرفه وعاشه وترعرع فيه. وإذا كان قوام متن النص يعمد إلى البحث بصورة مركزة عن المعاني الإنسانية في المتغيرات البشرية منذ بداية الخلق وحتى لحظة التخلق، فإن الشنفرى قد رصد ملامح دهشته من اكتشاف هذا الإنساني عبر رصد أهم تجلياته في الوطن البديل الذي رآه:
«كأن الله
ـ جل الله ـ
أنشأ خلقه
أمس، هنا
ثم استوى
فتبارك الرحمن
ثم تبارك الرحمن».

إنها لحظة الاكتشاف وذهولها، إذ يكتشف الإنسانية البكر كما خلقها الله، قبل أن تعبث بها كل المتغيرات السلبية للبشر، ثم وهو يسجل هول هذا الاكتشاف (هنا) يظل مسكوناً بحالة الموازنة، مع (الهناك):

«كأن الشنفرى
في ثامن الأيام لا يدري
أكان الله في الصحراء
حيث الوحي والقرآن
أم في ما يراه الآن:
أن الشنفرى
إنسان!».

لقد أعاد الشنفرى لحظة اكتشاف الإنسانية وبالموازنة مع الإنسانية هناك وهو ما جعله يتساءل هذا التساؤل الصادم، فالشنفرى في يومه الثامن في هذا المكان الجديد، وكأنه يقول: إن الله الذي خلق الكون في ستة أيام ثم استوى إلى عرشه، يفصل عن هذا الحدث يوم واحد هو يوم هجرة الشنفرى ليصل إلى هذا المكان في يومه الثامن ليرى الإنسانية على بساطتها كما خلقت تماماً، في حين أن الصحراء التي تقول إنها تعمل بموجب أخلاق القرآن وتعاليمه، لم تعد تحتفظ بشيء من تلك التعاليم ولا ببساطة الإنسانية الكامنة فيه.
لا يمكن القدرة على تأمل كل ما تضمنه هذا الديوان المكثف بلغته وصوره وتشكيلاته، وفي حيز يوازيه، ولكن يمكن القول: إن هذا المتن قادر على التعبير بصورة أوسع بكثير، وهو يمتلك من الأدوات الفنية ما يجعله معبراً بصور مختلفة. ويمكن لقارئه أن يجد فيه من التفاصيل الدقيقة ما يعكس قدرة فنية راقية في صب الصور الشعرية، والتعبير عن الدلالات الإنسانية التي أراد توصيلها في قالب فني جديد ومختلف، بدءاً من العنونة، التي اتخذت شكلاً مغايراً للمعتاد بحيث لم ترد العناوين بصورة مباشرة، بل هناك ثلاثة عناوين رئيسة ثم يتفرع عن كل عنوان رئيس عدد من النصوص، وهو ما يجعل العنونة عنقودية، داخل متن الديوان، وهذا الأمر جزء أساسي من فنية بناء النص الشعري بصورة مغايرة.
أما الأمر الآخر الذي قد يفتح شهية البحث الدقيق في الجوانب الفنية للبناء، هو ذلك الأمر المتعلق بالمزج بين الموسيقى والتشكيل، فحتى توزيع الكلمات داخل الصفحة يتخذ أشكالاً مختلفة، ويمكن لمن يعيد قراءة هذا المتن على نحو تفصيلي أن يكشف هذه الفنية، وترابط ذلك مع البنية الكلية للمتن. ومن ناحية أخرى ذلك المزج بين توزيع الكلمات وطبيعتها الصوتية والموسيقية، وتكرارها؛ مما يجعلها في كثير من المواضع تبدو أشبه بلوحة سيمفونية راقصة، أو رقصة تشكيلية. وينبغي هنا تقديم الاعتذار، حيث أن النماذج التي تم إدراجها – على سبيل الاستشهاد كما تقدم- لا تأخذ الشكل نفسه كما تبدو في الديوان، حيث اتخذ التوزيع الطباعي شكله الخاص الذي يتوازى مع خصوصية التعبير الفني العام، وهذا أمر بالغ الأهمية، خاصة لو علمنا أن المبدع هو من قام بتنسيق العمل طباعياً بنفسه وليس غيره، وهذا الترابط بين القول والفكر والتشكيل والموسيقى سيقدم أخيراً مجموع الشنفرى، بوجهه الجديد كما يتجلى في هذا المتن، أعتقد أن هناك بحثاً آخر أقدر على إبراز فنياته وجمالياته الفكرية والفنية على نحو أقرب إلى روح العمل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *