ألوان الألم

تكتسب أعلام الدول أهميتها من الرمزية التي تحملها دلالات ومضمامين ألوانها وأشكالها، وتصل في بعض الأحيان إلى ما يشبه التقديس الذي يحمل المواطنين إلى الحافاظ على هذا العلم بوصفه تجسيدا مصغرا للوطن. ومن هذا المنطلق فإن تصميم أعلام البلدان واختيار أشكالها وألوانها ينطلق من أسس ومعايير ذات خلفية ثقافية وجغرافية وتاريخية من عمق هذا البلد، ومن ثم يكون هذا الرمز مجسدا لهويته وحاملا لأسسها؛ ليكون مرجعا مصغرا ورمزا لسيادتها. فحين يحافظ الفرد على هذا العالم فإنه بصورة ما يستوحي هذه الدلالات والرموز التي يستبطنها ويتجسدها في ذهنه فتمنحه طاقة دافعة باتجاه الدفاع عن الوطن الذي يرمز إليه هذا العلم. ونحن حين نتأمل العلم اليمني بغية تفكيك رمزية ألوانه سنجده يكون رمزية للألم أكثر من كونه رمزية للعلم، حيث يفتقد بصورة أساسية أي مرجعية جغرافية أو ثقافية أو حضارية أو تاريخية.

حين نقول ألوان الألم فنحن نستذكر بصورة غير مباشرة نطق حرف العين في اللهجة التهامية، ومن ثم يحصل هذا الخلط بين العَلَم والألَم، وهو خلط يتجاوز الخلط في اللهجة إلى الخلط في المضمون والغاية، فدلالات العلم اليمني كما يتم تدريس الطلاب في المدارس وكما تقول أدبياته، أنه بألوانه الثلاثة في المستطيلات المتوازية، يحمل الدلالات التي تشير إلى النضال والتحرر والعبودية والظلام. فاللون الأحمر هو لون دم الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل إخراج اليمن من حكم الكهنوت إلى التحرر والانطلاق في آفاق العلم والمعرفة، أما اللون الأبيض في الوسط فيشير إلى الصفاء والنقاء في مبادئ وأهداف الثورة، واللون الأسود في أسفله يشير إلى الحقب المظلمة السابقة التي كانت تسيطر على اليمن.

إنها دلالات -في الحقيقة- لا تشير إلى اليمن بوصفه هوية ثقافية وفكرية وحضارية وتاريخية، ناهيك عن أن الدلالات تحمل الألم أكثر من كونها تحمل العلم فالدم هو إشارة إلى النزف والظلام هو الانخناق والعبودية. ثم إن الدلالات المرصودة في العلم هي دلالات ومضامين ثورية، فهو علم حركة ثورية أكثر من كونه علم بلد، إذ لا يوجد فيه ما يشير إلى اليمن ولا إلى شعبه أوتاريخه وحضاراته وتنوعه.

إن المراجع في معاني ألوان العلم اليمني مقارنة بالدلالات للألوان ذاتها لا سيما إذا تأملنا الأعلام العربية التي تشترك معها في تلك الألوان الأساسية فسنجد تبريرات مختلفة، فمثلا اللون الأحمر قد يشير إلى الحرية، والأسود وهو المختلف عليه كثيرا، تجد البعض في بلدان أخرى يقول إنه يشير إلى الشعب وعامة الناس، وربما هذه الدلالة مأخوذة من قولنا: “السواد الأعظم” في حين دول أخرى تقول إن الأسود مأخوذ من التاريخ بوصف اللون الأسود كان لون علم النبوة، وعلم العباسيين وهكذا.  هناك امتدادات دلالية مختلفة في حين أن واضع العلم اليمني رأى أن يحمل اللون الأسود دلالة الظلام الذي كان موجودا في الحقبة السابقة، ويقصد بها تحديدا حقبة الاستعمار في الجنوب والحكم الإمامي في الشمال. وأنا أتساءل هنا، مادمنا نتحرك في التاريخ فما جدوى أن نضع حقبة سابقة رمزا في العلم، لا سيما أن من اختار هذه الدلالة للحقبة السابقة التي يعني بها النظام الذي قبله قد صار هو الآخر نظاما سابقا وتنطبق عليه الدلالة ذاتها، ثم هل يجوز أن يكون علم بلد مرتكزا في تصميم شعاره على حقبة صغيرة بالتاريخ لكي تحمل شرف وضعها رمزا في العلم؟ وهل يجوز أن نضع الحقبة المظلمة رمزا في العلم الذي يحييه الطلاب مع كل صباح ويقاتل الناس تحت رايته؟ فيتم تحية الظلم والظلام الكائن رمزا داخل هذا العلم.؟ هل انعدم نور الحضارات القديمة المتعاقبة ليكون الظلام رمزا في علم هذا البلد؟

أخيرا يمكن القول إن هذا العلم هو امتداد لما كان يسمى علم التحرر العربي الذي كان في أغلب الدول العربية، فهو علم حركة أكثر من كونه علم بلد، فلا يصلح مطلقا أن يكون رمزا وشعارا، وينبغي إذا أرادوا أن يصنعوا علما أن يكون مأخوذا بدلالاته من عمق هذا البلد وتاريخه وحضاراته، والأهم من هذا كله أن يكون المواطن البسيط ذاته هو الفاعل الأساسي في اختيار الرموز والدلالات التي يحترمها والتي تشكل هويته ووطنه كي يسهم بشكل فاعل في احترام هذا العلم الذي يمثل المواطن قبل أن يمثل الوطن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *